تائه بين الفن في يوم الإستقلال
الفن هو خرابيش برابيش
هكذا كنت أعتقد
حاولت والدتي كثيراً أن تعلمني تقدير الفـن. في الأجازات في أوربا كانت تحاول جاهده ان تحضرنا أنا وأخي. ولكن بدون فائده. لقد تربينا في صحراء الكويت .... متاحف.....صالات فنيه....أوبرا....مسرح.....نجدها كلها ممله. نريد مدينة الملاهي للأطفال أو الذهاب إلي السينما.
لم أكن أفهم لوحات بيكاسوا. سيلفادور دالي؟ .... هذا إسمه موهبه بالله عليك؟ ..... حسناً .... أعترف أن ليوناردوا دافينشي كانت له مقدره تقنيه هائله ولكن مع وجود الكاميرا اليوم, أصبحنا في غنى عن تلك المواهب.
لسنا في حاجه إلى فن. الفن لا يحل ولا يربط ولا يغنى عن جوع. المجتمع بحاجه إلى أفراد يمنلكون مهارات عمليه. مهندس.....دكتور....حتى الزبال يحتاجه المجتمع. ولكن الفنان؟.....ما قيمة الفنان؟.....ليس منه أي قائده. من يفتقد الفنان عندما يغيب؟
هكذا كنت أفكر.
ولكن كل هذا تغيير في يوم من الأيام عندما جائت إبنتي من الروضة و أرتني اللوحه التي رسمتها في الروضه في ذالك اليوم. كان عمرها 6 سنوات. كنا نسكن في القدس.
كعوش: ماما! .... ماما! شوفي شو رسمت اليوم.
إيهاث: هاتي أشوف.
كعوش: دَجَلْ يسرائيل (تعني علم إسرائيل باللغه العبريه)
ارتني إبنتي رسمه مرسومه بالألوان المائيه عليها علم إسرائيل كبير.
كان اليوم هو أسيوع قبل ما يسمى عيد إستقلال دولة إسرائيل وما نسميه نحن بيوم النكبه. في الروضه التى تذهب إليها إبنتي قرروا أن يعلموا الأولاد عن يوم الأستقلال بأن يرسم كل واحد منهم علم الدوله المستقله. أردت أن أبصق على الرسمه. أردت أن أقطعها. أردت أن أحرقها. أردت أرميها على الأرض وأقفز عليها بكل ثقلي. أردت أن أمسح مؤخرتي فيها. ولكني نظرت في عيون إبنتي و رأيت مشاعر مبتهجه و مشاعر الفخر بما صنعت يداها. وبدل ما أن أفعل الأشياء التى خطرت في بالي تصرفت مثلما كنت أتصرف مع كل رسوماتها في الأيام السابقه. طببت على رأسها و علقت الصوره علي الثلاجه بقطعة مغناطيس.
إيهاث: شاطره يا حبيبتي.
بعد العشاء ذهبت إلى الخزانه باحثه عن علم فلسطين من أيام المظاهرات في فانكوفر – أو الحفلات في الشارع كما يسميها والدي. أريت إبنتي العلم.
إيهاث: هذا علمنا. علم فلسطين. وليس العلم هذاك.
كعوش: (هزت رأسها). لأ .... دجل يسرائيل.
إيهاث: أنظري كم هذا العلم جميل. فيه اللون الأخظر والأحمر. والأسود.
كعوش: (هزت رأسها). .... دجل يسرائيل.
إيهاث: هذا علمنا. هذا العلم أجمل لأنه لنا
كعوش: (هزت رأسها). .... دجل يسرائيل. دجل يسرائيل. دجل يسرائيل.
إيهاث: الحق مش عليكي. الحق على أمك وابوكي. الذين ربوكي في هذا التناقض حتى أصبحت لا تعرفين شيئاً
لن أخفي عليكم أنني كنت أعتبر حياتي في دولة إسرائيل تعيسه. ولكن حبي لزوجي جعلني أتحمل كل التناقضات التي كنت أتعرض لها بشكل يومي. التناقض بين الأشياء التي كنت أؤمن بها والواقع الذي كنت أعيشه.
كل صباح كنت أفيق من النوم وأول فكره تخطر في بالي تكون
“O! ****, I am in freakin Israel”
لقد جربت كل الطرق التي كنت أعرفها للتأثير على زعتره حتى نغادر دولة إسرائيل. كل الطرق التي منحتني إيها الطبيعه بصفتي إمرأة حتى أقنعه بظرورة مغادرة الدوله التى تكرهنا و تكره كل ما نمثله. كنت أعتبر نفسي خبيره في وسائل الأقناع خصوصا فيما يتعلق بزعتره. كان في السابق لا يتحمل الوقوف أمام وسائلي الخاصه و تنهار عزيمته مهما كان مقتنعا برأيه. إذا لم ينفع الإغراء إذاً أجرب طريقة البكاء. كان زعترة يلتوي أمامي من الألم عندما يراني أبكي و يكون على إستعداد لفعل أي شيئ حتي يرضيني. " بس إحكيلي شو بدك ياني أساوي" .... يقولها بصوت يحطم القلب بعد خمسة دقائق بكاء فقط. وإن لم يتفع البكاء إذاً هناك طريقة السكوت. لا أتكلم معه لمدة ساعه و أجلس في غرفه بعيده عنه لأجده بأتي لي و يقول " خلص .... خلص ..... بس إرضي عني". و إن لم ينفع السكوت إذاً هناك طريقة النوم في غرفة النوم الثانيه بعيدا عنه. فلا بقبل النوم إلا بعد أن يتم التصالح. في دولة إسرائيل جربت كل الطرق المعتاده وعندما بائت كلها في الفشل إبتكرت طرق جديده. الصياح وطرق الباب و تكسير الصحون و الأكواب و عمل جو نكد في البيت و التهديد بأنني سوف أنظم لمنظمة حماس ..... ولكن الرد كان دائماً هو نفسه.
"أنت منفعله زياده عن اللزوم. الأمور بخير. هونيها بتهون. كل بلد فيها مشاكل. ....... أنا لا أستطبع ترك عملي في الجامعه العبريه في القدس ..... أبحاثي العلميه لا أستطيع أن أقطعها. هدئ أعصابك...... أنظري للأمور من منظار إيجابي" كانت عباراته تلك يكررها حتى حفضتها.
مادام الأمور بخير .... إذا المشكله موجوده في رأسي. لربما أنا أتوهم ...... يمكن أنا مجنونه. إذاً يجب علي أن أحاول أن أتعود على الأوضاع الموجوده. و أحاول أن أتأقلم معاها.
ولكن في اليوم الذي أحظرت كعوش رسمة دجل يسرائيل للبيت. أدركت أن المشكله ليست من توهمي فقط. رأيت في المستقبل أن إبنتي سوف تتربي في مجتمع يحتقرها و سوف يحاول أن يقنعها أنها أقل من غيرها لأنها لا تنتمي إلى شعب الله المختار. سوف تعيش في تناقض مؤلم طوال حياتها. إذا كانت قويه قد تثور على هذا الواقع ولكن إذا لم تكن لدبها قوة خارقه سوف تصاب بأمراض تفسيه.
ماذا أفعل؟ وزوجي لا يرى ولا يستمع. ماذا أفعل؟
كنت في حيره من أمري. أشعر بالشلل. شعرت بالإحباط.
في يوم من الأيام جاء إلي العمل زميلي بوريس مبتهجاً للغايه. يتكلم عن اللوحه الفنيه المهمه التى هي معروضه بشكل مؤقت في متحف إسرائيل. "إنها فرصه نادره. لا أصدق أنني رأيت هذه اللوحه الفنيه الرائعه بأم عيني. فرصة العمر" هكذا كان يتكلم بوريس. سألته عن ماهية اللوحه تلك. ذكر لي إسم الفنان المهم وكنت أهز رأسي وكأنني أعرف عن من يتكلم لأنني لا أريد أن أفضح جهلي بعالم الفن. "يا له من أحمق. فاضي أشغال. العالم فيه الجائع و المحتاج و هو مهووس بلوحه فنيه. لو أن عنده هموم حقيقيه لما وجد الوقت لزيارة المتاحف." هكذا قلت لنفسي.
ولكن نظرة الإنفعال في وجه بوريس جعلتني أشعر بالفضول. حاولت أن أنسي الموضوع ولكن أصابتني رغبه عارمه برؤيه اللوحه التى تكلم عنها بوريس.
جوستاف كليمنت رسام ألماني مشهور. و هذه رسمته "جوديث" المشهوره والتي كانت معروضه لفتره قصبره في متحف إسرائيل.

جلست أمام اللوحه أتأملها مصره أن أفهم سر إعجاب الناس فيها.
اللوحه تقص حكايه من الأنجيل عن إمرأة إسمها جوديث قطعت رأس رجل بيدها حتي تنقذ شعبها من الهلاك. تستطيعون رؤية الرأس المقطوع في الجانب اليمين السفلي من اللوحه. تأملت ملامح وجه الإمرأة فوجدت ان التعبير على وجهها غريب. تبدوا عليها النشوة و الإرتياح التام. كيف تكون كذالك؟ بعد الذي فعلته؟
المزيد من التأمل.
ثم فجأة سمعت صوتها يتكلم معي
"إيهاث! خذي زمام حياتك بيديك"
إرتعبت ووجدت نفسي أقف من الرعب. "لا لا هذا غير معقول! اللوحه لا تتكلم" قلت لنفسي.
إقتربت من اللوحه. وهذه المره نظرت مباشره في عينيها بتحدي.
"إيهاث! خذي زمام حياتك بيديك"
هذه المره إرتعبت أكثر. وهربت من المتحف بسرعه.
يبدوا أنني فعلأ مجنونه .... بحيث أصبحت أتوهم أن اللوحه تتكلم
......
بعدها بفتره. أفقت في الصباح في إحدى الأيام و قلت لزوجي أنني رح اسافر بدون رجعه إلي كندا. في ذالك اليوم لم يكن هناك صياح أو خناق أو حتي نقاش. هز زعتره رأسه دلاله أن سمع الذي قلته.
عندما أخبرت الناس بنيتي للرجوع لكندا خلال ستة اسابيع, تفاوتت ردة الفعل
صديقتي وجارتي العزيزه قالت لي: ولكنك سوف تحطمين مستقبل زوجك الأكاديمي و سوف يكرهك طوال حباته
مدبري في العمل قال بعد أن قدمت إستقاتي أنه مستعد أن يضاعف معاشي بشرط أن أبقي في عملي في إسرائيل لأنني كنت الوحبده في الشركه التي تعرف أن تدير المشاريع الناجحه.
صديق العائله قال لي أنني مجنونه. لأن مشروع السلام في دولة إسرائيل على قدم و ساق والأوضاع في تحسن و أسرائيل سوف تصبح أحسن دوله في العالم.
والدي الذي لطالما ترجاني أن أرجع إلي كندا مع الأولاد و كانت عبارته المتكرره لي "إنت جيبي الأولاد و تعالي و ما عليك من الباقي. أنا مستعد أصرف عليك و أدفع تكاليف السفر كمان" عندما أتصلت به لأخبره أنني في طريقي لفانكوفر خلال 6 أسابيع ..... شهق و قال أنه يخاف علي من السفر لوحدي مع طفلتين صغيرتين هذه المسافه الطويله لوحدي خصوصاً أنني كنت حامل بالطفل الثالث و أقترح أن أسافر بعد الولاده
وزوجي قال أنه رح يتبعني بعدها بأشهر ولكنه ليس متأكد من أن يجد عمل في الحقل الأكاديمي ولذالك قد يضطر أن يقف مع عربانه في الشارع يبيع الطماطم لكسب قوت يومه.
وأنا قلت: مع السلامه لبلد الشقاء و الجنون و الإحباط. أنا أخذت زمام حياتي بيدي.
-------
حصلت علي عرض عمل ممتاز بعد وصولي إلي فانكوفر بأسبوعين مع أنني كنت حامل بالشهر الخامس
زوجي حصل علي عقد عمل يتجدد سنوياً في الجامعه و بعدها بفتره حصل علي مركز ثابت في نفس الجامعه و إستمرت أبحاثه بنجاح.
وقامت الإنتفاضه الثانيه قي فلسطين شهرين بعد سفري.
باللرغم من أن قرار الرجوع لكندا كان القرار السليم حتى بإعتراف زعتره إلا أن تصميمي على السفر بدون موافقة زعتره أثرت سلبياً على علاقتنا الزوجيه. لم نكن نتخانق و لا نتصايح. ولكن حل بيننا جو من البرود و السكوت الذي جعلني أشتاق للخناقه. نسكن في نفس البيت ونأكل علي نفس المائده ولا نتكلم سوى عن الأشياء العمليه – من يوصل الأولاد للمدرسه - ماذا نشتري من السوبر ماركت --
كل منا يقوم بواجباته البيتيه على اكمل وجه. أين الصفاء؟ أين الكلمات الوديه في منتصف الليل؟ أين تبادل الأسرار و الأحلام و القصص. أين النكت و المشاكسه و المقالب. أين الظحك العالي بدون حساب.؟
أصبحت أواجه تحدي جديد. تحدي فريد من نوعه. كيف أصلح الشرخ؟
شغلات المراهقه التي كنت أفعلها في السابق أصبحت لا تنفع. توجب علي أن أطور أساليب جديده أكثر نضوجاً
قصه طويله ولكن كان لجوستاف كلمنت دور صغير فيها. بما أن جوستاف مسؤول عن قراري بالسفر إذاً عليه أن يساعدني بإصلاح الشرخ الذي حصل بسبب هذا القرار.
أشتريت لوحه منسوخه عن الأصليه لجوستاف إسمها "القبله"

أريت اللوحه لزوجي.
إيهاث: إشتريت هذه اللوحه. أريد أن أعلقها في غرفة النوم. ما رأيك فيها؟
زعتره: مليحه.
إيهاث: أنظر جيداً. قل لي ما رأيك بصراحه
زعتره: ماشي حالها
إيهاث: تأمل جيداً. ألا تري التشابه بين الشخصيتين في الصوره وبيننا. أنظر. الرجل أسمر و شعره مفلفل. والمرأة بيضاء و شعرها بني. يعني مثلي و مثلك
زعتره: أها! طيب.
إيهاث: تأمل جيداً في الصوره. شوف الإستسلام التام للحب و الموده العارمه بينهما وهما راكعين بجانب بعض . أليس ذالك مأثر؟
زعتره: أعتقد أنك ماسكه الصوره بالطريقه الخطاء. لا أعتقد أنهم راكعين أعتقد أنهم نائمين. لو أدرت الصوره 90 درجه رح تشوفي أنهم نائيمين. و هذا يفسر سبب عدم ظهور أرجل الرجل في الصوره. لأنه نائم و رجله تحته.
إيهاث: أنت مخطئ. هذه لوحه مشهوره. إسمها القبله و ليس إسمها النائمون. الصوره بالطول وليست بالعرض.
زعتره: إذاً كيف تفسرين عدم ظهور أرجل الرجل بالصوره. لو أنه راكع كان رأينا رجله بالصوره. هذا غير منطقي.
إيهاث: ولكن هذه صوره فنيه ليس لها علاقه بالمنطق. هذه ليست إحدى تجاربك بالمختبر. المنطق لا يهم . المهم الشعور الذي توحي لك به الصوره. العواطف التي تحاول اللوحه التعبير عنها.
زعتره: طيب ... طيب. علقي الصوره علي كيفك في المكان الذي يعجبك
شعرت أنني أتجادل مع نفسي السابقه التي كانت تعتقد أن الفن لا توجد فائده منه.
علقت الصوره في غرفة النوم و كنت أتأمل بها كل ليله قبل النوم و أدعي أن تعم المشاعر التي في اللوحه في بيتنا.
لم يخيب ظني جوستاف للمره الثانيه
وأشكر دوله إسرائيل لأنها علمتني تقدير الفن في حياتي.
أعترف أنني لازلت لا أستطيع فهم سلفادور دالي. أتمني أن تكون رحلة فهمي له أقل إيلاماً
روعة يا ايهاث :)
شكرا على هذا الموضوع الجميل...
أخيرا أنعمت على قراء العربية بموضوع طويل مثل البلوج الانجليزي...:)
و كمان حكاية جوديث محكية بطريقة مختلفة تماما عن الانجليزي
شكرا ايهاث....
١٠:٢٢ ص
هذه شهاده أعتز بها يا محمد
٥:٤٠ م
beautiful. well written. i think i will become a regular reader. is that ok?
٧:٤١ م
و أنا كنت أظن أن أصعب لحظة تواجه الوالدين مع أطفالهما هي عندما يسألون: "من أين يأتي الأطفال"! :-)
تخيلتك مثل بطل مسلسل رأفت الهجان الذي كان يحلم بالمشانق و هو في إسرائيل.
لا أقبل أن أذهب إلى إسرائيل و لو حتى في رحلة عمل.
١:٣٧ ص
Good stuff... Interesting experience; thanks for sharing. so are you going to be a regular at the Vancouver Art Gallery?
hope your kiddo enjoys the great big north. cheers.
(side comment: the artist's name is gustav klimit (no "n") and he's austrian --you should look-up his painting titled "Love"; it's my favourite.)
٩:٠٧ ص
قصة رائعة جدا
الحمد لله أن عرفت قيمة الفن .. و إلا لخسرتي خسارة كبيرة
شكرا جزيلا لك
» إرسال تعليق